خلال فترة عملي المهني تنوعت علاقات العمل بين القطاعين الحكومي والخاص ، وتنوعت معها التجارب في طريقة التعاطي مع كلا القطاعين . وأذكر منذ أكثر من 10 سنوات أننا اتخذنا في المكتب قرارا استراتيجيا بوقف تعاقدات العمل مع القطاع الحكومي ، وذلك نتيجة لتجارب مضنية عشناها مع هذا القطاع في تلك الفترة التي كانت ظاهرة تأخر صف مستحقات المقاولين والمتعهدين أمرا شائعا . ولأن طبيعة عملنا تعتمد على تقديم الفكر والمعرفة والاستشارات في مجالات الهندسة والعمران ، وهو نشاط لا يتطلب أصولا رأس مالية من أجهزة ومعدات وعقارات وغير ذلك ، فإنه يعد بالتالي في وجهة نظر البنوك قطاعا غير مضمون وغير مؤهل للحصول على التسهيلات البنكية . هذا الواقع أضعف قدرتنا على تحمل تأخر مصروفات العقود من الدولة في تلك الفترة ، وتوجهنا حينها للعمل مع القطاع الخاص أملا في أن يكون أكثر سلاسة في معالجة مشاكل التدفق النقدي . ولكن ، كانت نتيجة هذا التوجه مدمرة بشكل قاس ، إذ أننا وجدنا أن العمل مع القطاع الخاص أكثر خطورة في هذا البلد . ففي حين أن الحقوق في الدولة يتأخر صرفها ، إلا أنها تصرف في نهاية المطاف . إلا أننا وجدنا أن القطاع الخاص لا يعترف بالحقوق ، ويمكن بكل سهولة أن يتخذ صاحب العمل قرارا بوقف المشروع ، أو عدم صرف مستحقات العمل ، علاوة على الممارسات العشوائية والارتجالية في مصادرة الضمانات التي لا يحكمها شرع ولا قانون ولا منطق . كما أن اللجوء إلى القضاء لا يسعف في معالجة هذا النوع من المشاكل ، فنحن لا زلنا نعيش عددا من قضايا المطالبات المالية في أروقة المحاكم منذ أكثر من خمس سنوات . بعد هذه التجربة المريرة قررنا العودة للعمل مع القطاع الحكومي ، وأصبحنا أكثر تحفظا في العمل مع القطاع الخاص ، خاصة وأن الدولة أصبحت هي المشغل الأكبر للقطاع الخاص في ظل ارتفاع أسعار النفط ونمو الموارد . وبعد 3 سنوات من هذا التغير الاستراتيجي الذي تزامن مع بداية الأزمة المالية العالمية ، إلا أننا وجدنا أن مشكلة تأخر صرف الحقوق لا زالت على ماهي عليه . والسبب هذه المرة ليس قلة الموارد ، فخزينة الدولة ممتلئة لحد الفيضان على مشاريع هلامية مبهرجة لا جدوى منها ولا هدف . ولكن السبب هو الآليات المنهكة والإجراءات المعقدة التي تمر بها رحلة صرف المستحقات . وعلى سبيل المثال ، نكون اليوم قد أتممنا أكثر من 4 اشهر على تسليم أحد المشاريع لأحد أجهزة الدولة ، دون أن نتسلم حتى ريالا واحدا من قيمة العقد . وطيلة هذه الفترة كانت معاملة الصرف تتجول بين إدارة المشاريع وإدارة المشتريات والإدارة المالية والممثل المالي . وآخر الحجج الواهية لهذا التأخير التي قدمها الممثل المالي اليوم هي أنه طلب تقديم ضمان بنكي لحسن التنفيذ حسب النظام ، مع أن المشروع كان قد تم توقيع عقده قبل صدور النظام الجديد للمشتريات والذي يفرض هذا الشرط الجائر ، علاوة على أن المشروع قد تم إنجازه وتسليمه تسليما نهائيا ، فعن أي حسن تنفيذ يتحدث هذا الممثل الهمام ؟ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق