التجميل

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

الثورة المخملية

هذه هي المرة الأولى التي أعود فيها إلى الكتابة في هذه المدونة منذ أن أتممت عامها الأول منذ أكثر من أربعة أشهر كنت خلالها أحاول جاهدا ألا أسطر فيها إلا ما يستحق اختراق الحظر المعنوي الذي أحاط بها . هذه العودة جاءت في دوحة قطر ، فأنا هنا منذ يومين لحضور أحد المحافل الهندسية التي تطبل على أحلام تنظيم كأس العالم والمشروعات التي ستنكب على طاولة العمل . الأمر الذي استفزني ودفعني لهذه العودة الطارئة هو ذاته ما يستفز مشاعر الناس كل يوم يشاهدون فيه صلف النظام السوري وقسوته على أبنائه ، ولكن من زاوية رؤية معاكسة أنتجتها تجربة عشتها ليلة البارحة . الحي الثقافي في دوحة قطر يشهد هذه الأيام تنظيم مناسبة عنوانها "وطن يتفتح في  الحرية" ، وهي منظومة من الأنشطة الفنية والأدبية التي تتبنى مباديء الثورة السورية . حضرت ليلة البارحة حفلة غنائية للفنانة أصالة ضمن فعاليات هذا المهرجان ، ممنيا نفسي بالاستماع إلى شيء من الطرب الأصيل والأغاني الدمشقية الجميلة . لا أريد هنا التعليق على المحتوى الفني ولا أسلوب هذه المطربة في الغناء المفتعل ، ولكنني أسجل هنا ما لا أستطيع تسجيله على صفحات الجرائد ، وهو شعوري بالإحباط القاتل من هذه المعارضة السورية التي علقت بها آمال الإنقاذ من نظام الطاغية . حضور الحفل كانو في أغلبهم من الطبقة المخملية ، بملابسهم وسياراتهم الفارهة وعقود المجوهرات التي لفت أعناق نسائهم العارية . لم أشعر أبدا أنا أيا من أولئك الحضور على وعي كاف بحجم المعاناة من القتل والدمار والتجويع الذي يعيشه أبناء الداخل السوري ، فكلهم كانو يرقصون طربا على أنغام أغان خليجية في أكثرها قدمتها هذه المطربة بمنتهى الابتذال موجهة كشتائم سطحية تجاه رمز النظام . المنظر كان سخيفا وخانقا في نفس الوقت ، أناس يقاومون الطغيان بالرقص والخلاعة ، فيما أبناء الداخل تقطع أوصالهم بسياط الجلاد الأسد . أسخف المواقف كان تلك الدعوة التي أطلقتها مطربة الحفل للتبرع لأطفال سوريا المساكين ، والتي افتتحتها بأن مدت يدها إلى القرط المتدلي من أذنها لتعلن تبرعها به ، مع أني كنت أرجو أن تعرضه أولا على الحضور ليتأكدو من أنه ليس قرطا مزيفا مقلدا عديم القيمة . خرجت من الحفل مقتنعا بأن هذه الثورة لن تنتهي في المستقبل القريب ، بل إن استمرارها هو من مصلحة ممثلي المعارضة هؤلاء ، فأين لهم أن يتنعمو بهذا الكرم الحاتمي وهذا النعيم الذي أسبغته عليهم دول الخليج ونموذجها الأنكأ الدولة القطرية . وأنا في الحقيقة لا أدري من من الطرفين يمثل على الآخر ، ومن منهما يوظف الآخر لتحقيق مصلحته . المهم الآن ، كيف يمكن أن تصل الرسالة لأبناء سوريا في الداخل ، وكيف يمكن أن تصلهم صورة ممثليهم معارضو الخارج الذين لا هم لهم إلا النغنغة والعيش المترف في هذه الثورة المخملية ، على الأقل حتى لا يعلقو بهم آمالا واهية في تخليصهم من براثن هذا الأسد القاتل ؟ .

الأربعاء، 25 يناير 2012

اليوم 365

وصلت اليوم إلى الرياض عائدا من رحلتي إلى كولومبو . عشت في رحلة العودة اليوم فصلا جديدا من المعاناة مع الخطوط السعودية نتيجة تأخر موعد إقلاع الطائرة ساعتين كاملتين بعد تأخر وصول الطائرة القادمة من الرياض . وأثناء انتظارنا لإقلاع الرحلة التي كان محددا لها أن تقلع في الساعة الحادية وخمس وأربعين دقيقة ، وبعد أن تضاربت المعلومات بين موظفي الخطوط في المطار عن موعد الإقلاع الجديد ، وصلت إلى هاتفي الجوال في الساعة الحادية عشرة والنصف رسالة من الخطوط السعودية تفيد بتأجيل موعد إقلاع الرحلة حتى الساعة الواحدة والنصف . أي أن الرسالة وصلت قبل موعد الإقلاع الأصلي بربع ساعة فقط ، وهو ما يعني أن كل الركاب قد وصلو بالفعل إلى المطار وأنهو إجراءات سفرهم . تعجبت من هذه الرسالة التي وصلت في الوقت الضائع ، وتمنيت على إدارة الخطوط السعودية لو أنها وفرت تكاليف إرسال هذه الرسائل بدلا من هذا الاستخفاف بمشاعر المسافرين . وبعيدا عن هذا الموقف المنغص ، فإن عودتي هذه تأتي مصادفة ليوم مليء بالأحداث والذكريات ، فهو أولا يصادف ذكرى انطلاق ثورة التحرير المصرية التي انطلقت في مثل هذا اليوم قبل عام كامل ، وهي الثورة التي سجلت في هذه المدونة أهم مراحلها . وهو أيضا اليوم الذي أختتم به عاما كاملا من عمر هذه المدونة التي أفرغت فيها كثيرا من الأفكار والخواطر والمشاهدات التي عشتها كما يعيشها كثير من أهل بلدي ، والتي حشدت ردود أفعال متناقضة من قرائها الكرام ، فمنهم من تابعها بشغف وصل كما وصفها بعضهم إلى حد الإدمان ، ومنهم من تابعها بشكل متقطع حسبما سمح به وقتهم الثمين ، ومنهم من سجل حيالها مواقف معارضة وصلت إلى حد وصفها بأنها ساقطة ودنيئة . والحقيقة أنني أكن لهذه المدونة فضلا كبيرا في أنها كشفت لي مشاعر البعض لأتبين فيها شيئا لم أكن أراه ، فضلا عن أنها أزاحت عن صدري هما ثقيلا بما أتاحت لي أن أبثه فيها من فضفضة نفست بها عن كثير من هموم الحياة . ومنذ فترة وأنا أفكر مترددا فيما إن كنت سأواصل الكتابة في هذه المدونة بعد أن أختم عامها الأول ، وها أنا قد حسمت قراري بهذا الشأن . وبدءا من الغد ، فإن هذه المدونة ستتحول إلى نثريات بدلا من يوميات ، وسأسطر فيها ما أجد فيه إضافة ذات قيمة دون الالتزام بالنمط اليومي في الكتابة . وبذلك ، أجد لزاما علي أن أشكر كل من منحني نزرا من وقته الثمين بشكل يومي أو متقطع لقراءة ما سطرته في هذه المدونة على مدى عام كامل ، وأن أقدم خالص الاعتذار لمن أزعجهم هذا الغزو اليومي ، ولمن حملو منها موقفا سلبيا أو رافضا لها بالكلية ، راجيا أن يكون هذا القرار سببا لإزاحة ما قد يكون قد علق في النفوس من غضب أو عتب . وللجميع أقول ... سامحوني أثابكم الله .

الثلاثاء، 24 يناير 2012

اليوم 364

أحد الإخوة الكرام قراء هذه المدونة علق على ما كتبته قبل يومين عن الإخوة السعوديين في بنتوتا ، وسألني مستهجنا إن كنت أدعو بما كتبت السيدات السعوديات إلى نزع عباءاتهن . وأنا لا أدري في الحقيقة من أين أتى هذا القاريء بهذا الاستنتاج ، خصوصا وأنني قلت أنني مقتنع بمبدأ الحرية الشخصية . ولكنني تساءلت عن مدى ملائمة اختيار من هم يحملون قناعات محافظة لمثل هذه الأماكن التي تشهد كثيرا من الممارسات التي تتعارض مع تلك القناعات . ثم أنني لم أستطع أبدا أن أفهم لماذا تعد العباءة السوداء الوسيلة الوحيدة للحجاب ، وهل أن كل النساء في البلدان الإسلامية مخطئات باختيار أردية أخرى تحقق شروط الحجاب والحشمة غير العباءة . المسألة هنا في رأيي هي مسألة أعراف وتقاليد وليست مسألة قيود دينية ، وبعضنا يتنطع في تطبيق الأعراف التي أحيانا ما تكون أكثر تقييدا من ديننا الإسلامي الذي هو دين اليسر والسماحة . واليوم رأيت دليلا عمليا على ما أقول ، فنساء إحدى الأسر السعودية المقيمة في فندقنا في بنتوتا كن محافظات على الحجاب الكامل بالعباءة وغطاء الوجه منذ وصولهن قبل يومين . واليوم رأيت بعضهن جالسات على جانب حمام السباحة وقد كشفن عن وجوههن  . والأغرب أنني لاحظت أنهن كن يغطين وجوههن كلما مر بالقرب منهن رجل يبدو لهن أنه سعودي ، بينما لا يحركن ساكنا إن مر أحد من أية جنسية أخرى . تعجبت من هذا الموقف ، وقررت أن أتحرى الأمر أكثر ، فمررت بقربهن وأنا أتحدث في هاتفي الجوال باللغة الانجليزية فلم يحركن ساكنا بالرغم من وقوفي مواجها لهن ، وعندما تحدثت بلهجتي السعودية انتبهن وانقلب حالهن ، وبادرن بتغطية وجوههن وتفقد عباءاتهن بشكل مرتبك . عندها أيقنت أن مسألة الحجاب إنما هي مسألة شكلية مرتبطة بالأعراف الخاصة بالسعوديين دون غيرهم ، وإلا فإن كشف الوجه إن كان محرما في قناعة أولئك النسوة فإنه يبقى محرما على كل الرجال وليس السعوديين منهم فحسب . على أية حال ، لا أعتقد أنه بخاف على أحد أننا شعب متعدد الأقنعة والأمزجة ، وربما أكون أنا أيضا على هذه الشاكلة رغما عني أو دون انتباه مني . وأنا الآن قد غادرت هذه البلدة الجميلة في طريق العودة إلى الرياض التي سأصلها بإذن الله مساء الغد ، وأرجو أن أكون قد تعلمت درسا في كيفية العيش ببساطة ودون أقنعة ، على الأقل لأرفع عن نفسي وعن غيري عناء التكلف وعبء تعدد الشخصيات .

الاثنين، 23 يناير 2012

اليوم 363


ما زال تقاطر الإخوة السعوديين إلى بنتوتا مستمرا بالرغم من انتصاف إجازة بين الفصلين الدراسية في المملكة ، حتى أن إدارة الفندق الذي أقيم فيه خصصت منطقة كاملة من الفندق لنزلائه من السعوديين ظنا منها بأن ذلك يمثل ميزة مفضلة لديهم ، وهو ما يخالف الحقيقة فيما رأيت في رحلاتي المتعددة . وبحسب مشاهداتي ، فإن السعوديين لا يفضلون الاختلاط ببعضهم البعض في رحلات السفر خارج المملكة بشكل عام ، اللهم إلا إن كانو قد رتبو لرحلة جماعية تضم عائلات من الأقارب والمعارف الذين يعرفون بعضهم تمام المعرفة ، ويشتركون في معاييرهم ومفاهيمهم أثناء السفر . السبب في ذلك أن السعوديين ربما يكونون الشعب الوحيد الذي يعيش وهو يرتدي أقنعة متعددة ، فالسعودي في السفر يختلف عنه في الحضر ، وهو في الغالب يفضل أن يتصرف على حريته بعيدا عن أعين غيره من السعوديين ، وكأن أولئك السعوديين الآخرين سوف ينقلون عنه ما رأوه عند عودتهم إلى بلادهم . هذا الواقع ينطبق على جل السعوديين بغض النظر عن كونهم محافظين أو حتى منفلتين ، وكلاهما لا يريد أن يرى سعوديا في محيطه يخالف نمط حياته في السفر . وأنا في العادة أسعى لأن أستمتع برحلاتي دون أن ألقي بالا لمن هم حولي سواء كانو سعوديين أو غيرهم ، ولا ألتفت كثيرا لنظرات السعوديين الناقدة عندما أكون وعائلتي على البحر أو في السوق أو في أي مكان آخر . فأنا أمقت تقمص الشخصيات ولبس الأقنعة ، وأحاول كثيرا أن أكون على سجيتي أينما كنت ومع من كنت . ومع ذلك فإنني لا أنجو غالبا من تلك النظرات الثاقبة من بعض الإخوة السعوديين دون أن أفهم مغزاها في كثير من الأحيان . وفي مثل هذا المكان الذي يغص بالسعوديين صرت أشعر أنني محط أنظارهم مع أنني لم أخترق حدود اللياقة والعرف في نمط حياتي هنا ، وهو أمر يجلب الإنزعاج ويثير الامتعاض . على أية حال ، هاهي الإجازة قد شارفت على الانقضاء ، ويوم غد سنغادر هذا المكان الجميل عائدين إلى كولومبو العاصمة في طريق العودة إلى الرياض . وربما سيكون لزاما علي أن أختار وجهتي القادمة للسفر بعيدا عن أماكن إقبال السعوديين ، على الأقل لأنجو من تلك النظرات الثاقبة المملوءة بالنقد والتحفظ ، وذلك الحمل الثقيل من التدخل في شئون الآخرين .

الأحد، 22 يناير 2012

اليوم 362

منذ أن وصلت إلى بلدة بنتوتا الساحلية الصغيرة في سريلانكا وأنا منقطع تقريبا عن العالم ، ويبدو أن إدارة الفندق الذي أقيم فيه تتعمد إضعاف إرسال شبكات الهاتف الجوال حتى توفر لنزلائه انقطاعا قسريا عن منغصات العمل وأخبار الدنيا . واليوم تسربت إلى هاتفي الجوال إشارة ضعيفة أعادت إليه الحياة فانسابت إليه مجموعة من الرسائل التي تضمنت أخبارا متنوعة وبعض الاتصالات المفقودة . تصفحت هذه الرسائل في عجالة ، واستوقفني من بينها رسالة واردة من أحد منسوبي المكتب يبلغني فيها بأن فريقا من مفتشي مكتب العمل قد قام بزيارة مفاجئة اليوم إلى مقر المكتب ، وهو ما أحدث ربكة كبيرة بين الموظفين ، واضطر بعضا منهم إلى التخفي والهرب ، وهم أولئك الذين لم نتم بعد إجراءات نقل كفالتهم . مثل هؤلاء نتعاقد معهم بشرط إنهاء فترة تجربة يتيحها نظام العمل مدتها ثلاثة أشهر ، ومن الطبيعي عدم إنهاء إجراءات نقل الكفالة إلا بعد نجاح التجربة . ولكن مفتشي مكتب العمل لا يفهمون هذا التسلسل ، وهم يوقعون سياط العقوبة والغرامات على أية حالة من مثل هذه الحالات لموظفين ينتظر إنهاء نقل كفالتهم بعد إنهاء فترات التجربة النظامية . شعرت للحظة أنني أقرأ خبرا عن وفد مفتشي الجامعة العربية في دمشق ، فهو تماما كمفتشي مكتب العمل ، يراقب دون أن يفهم ، ويعاقب دون أن يعدل . هذا النمط من التفتيش من قبل مكتب العمل هو إجراء مطلوب لمتابعة تطبيق الأنظمة والالتزام بها ، ولكن المشكلة هي في كيفية تطبيقه ، وتلك الحرفية الانتقائية في التطبيق ، تماما كتلك الانتقائية في اختيار المؤسسات التي تشن عليها غارات التفتيش هذه . ومكاتب العمل في هذه الحالات هي الخصم والحكم ، والقاضي والجلاد في آن معا . فهي تسن الأنظمة ، وهي تراقب تطبيقها ، وهي تحدد الغرامات والعقوبات ، وهي أيضا من يحكم بإيقاعها وتطبيقها ، وهي من يملك إيقاف الحاسب الآلي ، وهي من يهدد ويتوعد . شعرت أن دمي بدأ يفور ، وأنني افتقدت لحظات الراحة التي عشتها منذ أن وصلت إلى هنا ، فكتبت رسالة رد إلى المكتب تتضمن بعض التوجيهات للتعامل مع الأمر ، ولكنني لم أتمكن من إرسالها إذ عاود الإرسال الانقطاع ، وعاد هاتفي الجوال إلى الصمت المطبق ، فأغلقته ووضعته في خزينة الغرفة ، وخرجت لأتمشى على شاطيء البحر ، علني أنسى هم مكتب العمل وغيره ممن يخنقوننا بهذه الممارسات .

السبت، 21 يناير 2012

اليوم 361

رحلة الذهاب إلى بنتوتا كانت رحلة جميلة جدا بما شاهدناه فيها من مناظر طبيعية خلابة . وبنتوتا هي مدينة ساحلية في جنوب سريلانكا ، وتعد وجهة سياحية مفضلة لمحبي سياحة الشواطيء في هذا الوقت من العام . شواطيء هذه المدينة من أنظف الشواطيء التي رأيتها في حياتي ، ومياه البحر صافية جميلة ، ومنظر غروب الشمس من وراء التشكيلات الصخرية على الساحل يسلب الألباب . المفاجأة كانت أنني وجدت كثيرا من الإخوة السعوديين في هذه المدينة وفي المنتجع الذي سكنت وعائلتي فيه ، وأنا لم أتوقع أن يجذب هذا المكان اهتمام السعوديين ، وخاصة الشريحة المحافظة منهم ، ومعظم من رأيتهم اليوم هم من تلك الشريحة . المشهد كان محل استغراب من البعض ، ومحل انتقاد من البعض الآخر ، فمنظر السيدات المنقبات بعاءاتهن الثقيلة وهن يتنزهن على شاطيء البحر كان ملفتا للنظر . وفي الحقيقة أنني احترت في كيفية التعاطي مع هذا المشهد ، فأنا من جهة من أنصار الحرية الشخصية ، وكل يملك الحرية في الذهاب الذي يريد حتى لو لم يكن منظره وطريقة لباسه تعجب الآخرين . ومن جهة أخرى فإن الذهاب إلأى مثل هذه الأماكن يستلزم الانسجام معها لتحقيق المتعة القصوى فيها ، وبالتالي فإن الشخص المحافظ المتحفظ الذي يأتي إلى أماكن يشيع فيها الانفتاح المخل في عرفه وقناعاته يمثل لي شيئا من التناقض المخل ، علاوة على أنه يمثل شكلا من أشكال الهدر إذ هو يصرف أموالا للذهاب إلى مكان لا يستطيع أن يفعل فيه مايريد . أنا لا أريد أن أقيد حرية أحد في الذهاب إلى حيث يريد ، ولا أريد أن أفرض وجهة نظر أحد على فئة ما فيما يرتدون أو يفعلون ، ولكنني لم أستطع أن أفهم هذا التناقض ، ولم أستطع أن أهضمه ، ولي في ذلك أيضا مطلق الحرية ، خاصة وأنني لم أواجه أحدا بهذا الرأي . على أية حال ، فإن هذه الرحلة قد بينت لي أن هذا البلد قد سبقني إلى استكشافه الكثيرون من الإخوة السعوديين ، مع أني استغربت وجودهم الكثيف في بنتوتا مدينة السياحة الشاطئية وليس في كولومبو العاصمة الصاخبة ومدينة الأعمال .

الجمعة، 20 يناير 2012

اليوم 360

وجودنا في سري لانكا يحمل بالنسبة لي ولزوجتي العزيزة فرصة لمعالجة أزمة خدم المنازل التي نعاني منها منذ فترة ، وبالتحديد منذ أن توقف الاستقدام من الفلبين واندونيسيا ، وارتفعت نتيجة لذلك تكاليف الاستقدام ونقل الكفالة للجنسيات الأخرى . لم أصدق أذني عندما علمت أن تكلفة نقل الكفالة للخادمة السريلانكية قد وصلت إلى أكثر من ثلاثين ألف ريال ، وأن تكلفة استقدامها من بلادها تصل إلى أكثر من نصف هذا المبلغ . صباح اليوم التقيت أحد المختصين بتوريد العمالة في سريلانكا ، وهو كما قال عامل سابق في أحد فنادق المملكة لأكثر من خمس سنوات ، ويعلم تماما بيئة العمل فيها . غرض اللقاء بالطبع كان مساعدتنا في البحث عن خادمة ملائمة للعمل في منزلي المتواضع في الرياض ، وهو ما عرض أن يعيننا على تحقيقه بالرغم من أنه لا يختص بتوريد هذه النوعية من العمالة . خضت حديثا متشعبا مع هذا الرجل ، ونقلت له وجهة نظر ممواطن سعودي حول المعاناة التي نعيشها مع قضايا الخادمات ، بما فيها مشاكل الهرب وسوء الأداء وسوء الخلق وسوء التدريب وغيرها الكثير ، وهي معاناة أصبحت أكثر فداحة مع ارتفاع تكاليف الاستقدام . المفاجأة كانت أنه أوضح لي أن ارتفاع التكاليف ليس مرتبطا لا بنقص أعداد الخادمات ولا بتعقيد الإجراءات ولا أي سبب آخر من تلك التي نسمع عنها من مكاتب الاستقدام في المملكة ، وإنما هي ناتجة عن العمولات المرتفعة التي يعرضها أصحاب ومندوبو تلك المكاتب . الرجل اتصل أمامي بإحدى الوسيطات اللاتي يتعامل معهن لتوريد العمالة من القرى والأرياف ، وأبلغني أن مكتبا في السعودية عرض عليها عمولة تصل إلى ألف وخمسمائة دولار أمريكي إن هي وفرت له العاملة المطلوبة في زمن محدد . الرجل قال أن مثل هذه العروض تفسد السوق وتعود المندوبين على هذه العمولات المرتفعة فلا يعودون يقبلون بأقل منها ، ولا يهمهم إنجاز عدد أكبر من الطلبات في ظل ارتفاع العائد من عدد أقل من عمليات التوظيف . وفي النتيجة ، فإن هذه العمولات التي يعرضها أصحاب المكاتب في المملكة يتم دفعها إلى جانب أنواع أخرى من الأتعاب والعمولات من قبل أمثالي من أرباب العوائل المساكين ، وهم بذلك يخلقون شكلا من أشكال التضخم المضاربي المفتعل الذي لا يختلف عن أشكال التضخم الأخرى التي نعيشها ، بما فيها تضخم أسعار السلع وإيجارات المنازل وغيرها من متطلبات الحياة ، والتي أصبحت عبئا تنوء به كواهل الناس في وقت نامت فيه أعين الرقابة ، إن لم تكن هي ذاتها مستفيدة من هذا الواقع الأليم .